العمارة العمانية توازن أصيل بين مكتسبات الماضي ومنجزات الحاضر
تطورت تدريجيا على مستوى الشكل والرؤى الجمالية -
النهضة الحديثة تجنبت الفهم الخاطئ لمفهوم تأصيل العمارة -
احتفظت السلطنة بطابع عمراني بسيط من حيث القراءة الأولية ومعقد من حيث القراءة الثانية بالاستناد إلى فلسفة عمارة ما بعد الحداثة المعرّفة بـ«الكلاسيكية الجديدة»، التي حاولت أن تتجاوز إخفاقات التراث العمراني من حيث تغييب بُعد الذاكرة الجمعية للمجتمع متمثلة في تراثه وموروثه وتقاليده، مع الإدراك بأنه لا يمكن فهم التشكيل الجمالي لدى ذهن أي مجتمع ما لم نفهم تلك الذاكرة بتعمق.
وفي منجز النهضة العمانية وبالنظر إلى الإطار المدني والبنايات التي تطبعت بالعصر الجديد، فإن ما تحقق هو إسقاط فعلي لنظرية (جعل الزمان في المكان)، بخلاف ما حدث في مدنيات أخرى مرّت بالشرط العماني ذاته من حيث التطور والترقية من التقليد إلى التحديث.
ولن تتجاوز الرؤية التحليلية في استحضارها للتأسيسات النظرية للنهضة العمانية العبارات التي وردت في أول سطر من خطاب السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ لدى تسلمه مقاليد الحكم بوعده بـ«أول هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها». فهذه العبارات تفتح الأفق لإمكانية استيعاب العمارة العمانية، باعتبارها واحدة من منجزات الحكومة العصرية، حيث استطاعت هذه العمارة التخلص من «وطأة الأوامر غير الضرورية». وقد جاءت استجابة المكان لهذا الشرط التأسيسي ليعكس عمارة ذات بعد عصري بشرط «جعل الزمان في المكان»، مع التخلص من كل الزوائد والتفاصيل غير الضرورية، التي لن تكون في حالة تحققها إلا عبئا غير مرغوب فيه، لا يخدم مفهوم «العصرية» ولا روحها المتأصلة التي تنادي بها النهضة العمانية.
توازن أصيل
وإذا كانت فلسفة النهضة تنبني على قاعدة توازن أصيل بين مكتسبات الماضي ومنجزات الحاضر، فإن هذا الشرط كان من الضروري أن يتحقق في العمارة؛ لأنها أول ما تقع عليه العين ومن ثم فهي تقترب به من تكوين فكرة مبدئية عن المكان والإنسان، والعمارة بشكل أعمق تقدم صورة عن ثقافة الإنسان والمجتمع. فإذا اختل التصوّر المبدئي من خلال المجسم، عن النتيجة اللاحقة من خلال التفاعل مع الكائن، اختل شرط أساسي في أصالة الإنسان ومكانته، وهو ما ينطبق على مجتمعات انحرفت عن أمسها فقولبت المكان بغير ما هي عليه من واقع وقيمة.
وهناك من فهم أن التأصيل في العمارة لا يتعدى مجرد أن نستعير الرموز الشكلية فنضعها على واجهات المباني أو نصمم مبنى على شكل رمزية معمارية شكلانية قديمة. كأن يصمم المصريون مبانيهم على شكل أهرامات، أو يصمم اليونانيون مبانيهم على شكل الأكروبولس، أو اليابانيون على شكل البيت الياباني التقليدي المبني من الخشب، وهو ما لم يحدث.
وقد وقع بعض الشعوب في الفهم الخاطئ لمفهوم تأصيل العمارة، فكانت في تشكيلها الخارجي مجرد مسخ مشوّه لما كان في الماضي. وفي هذا الإطار وفي الغرب ولزمن طويل ظلت مدارس معمارية ترفض فكرة أن البيت مجرد آلة للسكن كما نادى المعماري الألماني ولتر جروبيس مؤسس مدرسة (الباهاوس)؛ لأن ذلك يجرّد المبنى من أي بعد زماني أو مكاني. ومن ضمن الرافضين هناك تيار يتخذ موقفا معارضا للبنايات العالية جدًا، حتى لو أنها تحقق اختصارا للجغرافيا والزمان، والسبب أن فكرة هذا الاختصار في حد ذاتها، تجاوزت الفهم القديم بعد ثورة التواصل الافتراضي التي ساهمت في صياغتها التقنيات الجديدة كالإنترنت باعتباره المشهد الأكثر حداثة في مشروع تلاشي فكرة الزمان والمكان الكلاسيكيين وإعادة اختراع وسائل التواصل والاتصال بين البشر. ومن ثم فقد ولدت العمارة العمانية الحديثة بناء على مناظير تؤمن بالتوازن وفق المفاهيم التي أسست لمجمل مشروع النهضة والتنمية، فكان أن التزمت العمارة بروحانية الإنسان وامتداداته في أمسه وجذره الحضاري، وبهذا تحققت «عصرنة العمارة» دون طغيان على الموروث أو مجاراة للآخر في غير ما محل، وهذا المفهوم العام من التوازن يضع شروطه في تجليات النهضة عبر كافة صور منجزها، سواء كانت متعلقة بالسعادة المادية المباشرة أو السعادة في بعدها الروحي.
زمن متخيل
وهيأ هذا التوازن المعقول بين القديم والجديد، التراث والحداثة، للعمارة العمانية الحديثة أن تأتي متوازنة من حيث الامتداد الأفقي والرأسي وأن تعتمد طبيعة الأرض دون أن تتغول عليها، كذلك تقاليد الإنسان دون أن تسرقه للعيش داخل أبراج مشيدة تكاد تناطح السحاب، فيندمج في زمن جديد متخيل غير الزمن الذي من المفترض أن يعيشه، والذي يقوم على تلك المعادلة بأن زمن اليوم هو امتداد لزمن الأمس في بعده المكاني والروحاني ولكن بسياق حديث. وبالتالي فإن التطوير في الأنماط المعمارية يفرضه التطور الطبيعي للحياة، لا الإقحام ومحاولة زحزحة الزمن إلى غير مكانه، استنادا إلى تطور الوعي والثقافة والتدرب العملي على كافة أسئلة الحياة، وقد أشار السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ إلى هذا المعنى بقوله: «كلما ازداد شعبنا تدرباً ووعياً وثقافة، كلما تعامل مع التطور المادي والعمراني على النحو المنشود».
وإذا كان هناك من النظريات ما يجعل من الذات مرجعية أساسية للأعمال الفنية أكثر من جعل هذه الأعمال انعكاسًا لصورة المجتمع. فإن العمارة في المشهد العماني لا تزال مرآة للمجتمع وهي تعبر كذلك عن الذات الجمعية، وقد لعبت مبادئ النهضة وتأكيدها على التوازن دورا في ذلك بحكم ما تشكّل من وعي جمعي إلى جانب القانون الذي يكون ضروريًا من الناحية التنظيمية خاصة في أمور تتعلق بالتخطيط المدني والعمراني، حيث يحدد القانون السمات العامة لشكل العمارة بناء على الفلسفة التي تنطلق منها الحكومة.
وبفعل فلسفة التوازن انبثقت أطر عامة وجهت العمارة في عمان العصرية، من حيث الأشكال والألوان والنظر إلى مفهوم الجمال. وهنا يمكن الرجوع إلى ما قاله السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ في هذا الإطار حيث أشار إلى أن «سر الجمال يكمن دائمًا في البساطة، إن كل ما في هذا البلد بسيط حتى ألوان المدينة ومبانيها الخارجية محكومة بألوان مختارة ومحددة اعتقد أنها سبعة ألوان أنيقة فقط». وهذا هو المبدأ ذاته الذي يقول به المعماريون less is more ويعنون به أن الجمال الباهر يتأتى عن طريق مفردات بسيطة وليس عن طريق التعقيد، وربما كانت هذه قاعدة عامة في فلسفة الحياة وشروط النجاح فيها بشكل مطلق. وهي فلسفة عمانية أصيلة في نهج الدولة الحديثة. وهي كذلك قاعدة ترتبط بوعي الذات من حيث إمكانياتها ورغباتها وهدفها وغايتها في هذا العالم، فمن يحقق الوعي الصحيح بالذات ويتبعه بالمعرفة والحكمة يوجد خصوصيته التي تمكنه من أن يكون متفردا ليصل إلى الحلول بأبسط الطرق، بعيدا عن التعقيد، فيولّدا جماليته الخاصة.
وبالعودة إلى نظرية «جعل الزمان في المكان»، فإن عمان وبعد عقود من مسيرة النهضة، تغير فيها الكثير من الأشياء تطورا في إطار «العصرنة». وهذا يعني أن مستقبل العمارة، سيخضع للاعتبارات الجديدة، مع الاحتفاظ بالمرتكزات والثوابت التأسيسية: مبدأ التوازن والجمال القائم على البساطة وما تمليه الحاجة.
وقد أشار السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ إلى هذا الأمر في إطار حديثه عن الموازنة بين الموروث والعصرنة حيث قال: «هذه النقطة كنت أتداولها مع نفسي وأعايشها كثيرا ورأيت أني أرفض أن تطغى العصرنة على الموروث، فموروثنا جميل ولا يحتاج إلا إلى بعض التطوير وإلحاقه بالعصرنة بشكل متوازن لا يطغى فيه هذا على ذاك».
وأضاف طيب الله ثراه: «لقد وصلت عمان في نظري إلى مراحل متقدمة في هذا المضمار، واعتقد أنه أصبح علينا أن نزيد من جرعة الانفتاح خصوصًا أن البنية الأساسية اكتملت والمدينة جميلة وعلينا أن نزيدها جمالا، فهي مهيأة وفيها الأمن والأمان اللذان يتطلبهما الانفتاح إضافة إلى أننا جملنا التراث وقاربناه مع العصرنة». وتعني الإشارة الواضحة في الاقتباس السابق «المدينة جميلة وعلينا أن نزيدها جمالا»، أن التطور مستمر، وأن ما تحددت به عمارة اليوم في عمان ليس إلا جانبا من الأفق المرتجى، وتعني أيضًا: إن مرحلة الانفتاح تتطلب تطويرًا لرؤى جديدة في العمارة العمانية تواكب صناعة السياحة والاستثمارات في هذا المجال من داخل عمان وخارجها. لكن هذا التجديد لا يرمز لإغلاق الأمس أو سد بابه، فالدول ذات الخصوصية كعُمان، مثل البشر أصحاب الخصوصية، لا يتنازلون عن مبادئهم ومكتسباتهم وخبراتهم على حساب الجديد.
لقد حقق العمران العماني ذاته وهو يتطور على مستوى الشكل والرؤى الجمالية تدريجيا. فعمان في سنة 1970 ليست هي عمان اليوم من حيث العمارة، وحتما لن تكون عمان بعد بضع سنوات من الآن هي عمان اليوم ذاتها. ويظل الملمح الرئيسي في ذلك أن هناك طابعًا ونسيجًا تتآلف فيه علامات وأشكال الأمس والتاريخ مع معطيات الحاضر في المظهر العام للمدن العمانية، وكأنها نسخة واحدة مترابطة، سواء بين الجبل والبحر أو في السهول والهضاب والبوادي، وهو ما يدلل على ما وراء ذلك من فكر نهضوي متسق.